يوم-عاشوراء
اصطفى اللهُ تعالى الأنبياء على سائِرْ خلقِه ، ومنْ بين الأنبياء اصطفى أولي العزمِ من الرُّسل ، ومن بين أولي العزم من الرُسُلْ قد اصطفى خاتم الأنبياء والمُرسلين مُحمد صلى اللهُ عليهِ وسلَّم سيد ولد آدم إلى يومِ الدين ، وبما أنَّ سُنَّة الله في أرضِه تقتضي الإصطفاء ؛ فقد اصطفى اللهُ تعالى من الشهور رمضان ؛ ليكون شهرًا أُنزِل فيهِ القرآن ، واصطفى اللهُ تعالى من شهور السنة الاثنيّ عشرالأشهُرْ الحُرُم التي قد حرَّمَّ اللهُ تعالى فيها القِتال ، قال اللهُ تعالى : (إن عِدةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كِتابِ الله يوم خلق السماواتِ والأرض مِنها أربعةٌ حُرُمْ ذلك الدينُ القِيِّم فلا تظلِموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المُشركين كافَّة كما يُقاتِلونكم كافَّة واعلموا أنَّ الله مع المُتقين) (الآية 36 : سورة التوبة) ؛ وقد سُنَّ لنا في تِلك الأشهر عبادةُ اللهِ تعالى بكثرة الصيام ، ومن بينِ الأيام قد اصطفى اللهُ تعالى العاشِرْ من شهرِ اللهِ المُحرَّم ؛ لُينجي الله تعالى فيهِ موسى وثُلَّة المؤمنين ويُغرِق فرعون وملأِه ويجعلهم عبرةً إلى يومِ الدين ؛ فَـ صام موسى والمؤمنين هذا اليوم شكرًا وحمدًا لله تعالى ؛ ثُمَّ صامه بني اليهود ؛ ثُمَّ أتى مُحمد صلى الله عليهِ وسلم وجعل صِيامنا ليوم عاشورًا فرضًا ؛ وذلك لأننا نحنْ معشر المُسلمِين أحقُّ بِـ موسى عليهِ السلام من اليهود خاصَّة ومِنْ أهلِ الكِتابِ عامَّة ؛ ثُمَّ فرضَ اللهُ رمضان فنُسِخَ صيام يوم عاشوراء من كونة فريضة واجبة إلى سُنَّة مؤكدَّة.
فما هو يوم عاشوراء؟
- ما هو يوم عاشوراء ؟ (What is the day of Ashura):
هو اليوم الذي نجَّى الله عزَّ وجلَّ نبيَّهُ موسى عليهِ السلام والمؤمنين من بطشِ فرعون وقومُه ؛ فَـ صام موسى عليهِ السلام هذا اليوم شُكرًا وحمدًا لله تعالى ؛ قال تعالى : (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا حتى إذا أدركهُ الغرق قال آمنتُ أنه لا إلا الذي آمنت بِه بنو إسرائيل وأنا من المُسلمين (90) الآن وقد عصيت قبل وكُنت من المُفسدِين (91) فاليوم نُنجيك ببدنِك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناسِ عن آياتِنا لغافلون (92)) (سورة يُونُسْ).
ومِنْ رحمة اللهِ تعالى أن نجَّى موسى عليهِ السلام والمؤمنين بِـ آية بينةٍ من عندِه فانشَّقْ البحر الأحمر ؛ ليعبُرَ موسى عليهِ السلام مع المؤمنين ، ثم أمر اللهُ تعالى بأن يرجِع كما كان فأطبق البحر كفتيّهِ على فرعون وملأِه ، قال تعالى : (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق كُل فِرقٍ كالطود العظيم) (الآية 63 : سورة الشُعراء).
وقد روى مُسلِمْ في صحيحِه ؛ عن عبدالله بن عباسٍ رضيّ اللهُ عنهما : أن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم قَدِمَ المدينة فوجد اليهود صِيامًا يوم عاشوراء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّمْ : (ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟) ، فقالوا : هذا يوم عظيم ، أنجى الله فيهِ موسى وقومُهْ ، وغرَّقَّ فرعون وقومه ، فصامه موسى عليهِ السلام شُكرًا ، فنحنُ نصومه ، فقال رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ : (فنحنُ أحقُّ وأولى بموسى منكُمْ فصامَّهُ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ ، وأمر بصيامِهْ).
سبب تسمية يوم عاشوراء بهذا الاسم (The reason for naming the day of Ashura this name):
أُخِذَ لفظ (عاشوراء) من المصدر (عاشر) ؛ وهو مُجرَّد صفة لِـ الليلة العاشرة ويُضاف إليها اليوم ؛ فَـ يُقال : يوم عاشوراء ؛ أيّ يوم الليلة العاشرة ، إلا أن الصفة تُحَّول عنها ليكون المقصود من عاشوراء اليوم العاشِرْ لا ليلتِه.
وقد قال بعض أهل العلم عن سبب تسمية بوم عاشوراء بهذا الاسم : {لأنَّه اليوم العاشرمن مُحرَّم} ؛ بينما قال آخرون : {لأنَّهُ يوم أكرم اللهُ فيه عشرة أنبياء بعشر كرامات} ؛ وختامًا ؛ قد قال بعض أهل العلم عن سبب تسمية عاشوراء بهذا الاسم : {لأنه عاشِرْ كرامة أكرم اللهُ سبحانه بها هذهِ الأمة}.
- حُكم صِيام يوم عاشوراء (Ruling on fasting on Ashura):
روى البخاريّ في صحيحِه ؛ عن سلمة بن الأكوع رضيَّ اللهُ عنه ، قال : (أمر النبيّ صلى الله عليهِ وسلم – رجُلاً من أسلَمْ أن أذِّنْ في الناس : أنَّ من كان أكل فليصُمْ بقيّة يومِه ، ومن لم يكُنْ أكل فليصُمْ ، فإن اليوم يوم عاشوراء).
مراتِبْ صِيام يوم عاشوراء (The order of fasting on Ashura):
روى مُسلِمْ في صحيحِه ؛ عن عبد الله بن عباسٍ رضيَّ اللهُ عنهما ؛ أنَّهُ قال : (حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ، وأمر بصيامِه ، قالوا : يا رسول الله إنَّهُ يوم تُعظِّمُهُ اليهود والنصارى ، فقال رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم : فإذا كان العام المُقبِلْ إن شاء الله ، صُمنا اليوم التاسِعْ ، قال ابن عباس : فلم يأتِ العام المُقبِلْ ، حتى توفِيَّ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ).
وقد روى كُلًا من : الإمام أحمد في مُسندِه ، والبيهقيّ في سُننِه ؛ عن عبد الله بن عباسٍ رضيَّ اللهُ عنهما : أن النبي صلى الله عليهِ وسلَّم ، قال : (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيهِ اليهود : صوموا قبلهُ يومًا ، وبعدهُ يومًا).
وبِناءًا على ذلك فقد صنَّف أهل العلم مراتِب صيام يوم عاشوراء على خمسة مراتِب رئيسية النحو التالي :
- صِيام يوميّ التاسِع والعاشِرْ ؛ وهو ما ذهب إليهِ أغلب العُلماء.
- صِيام يوم عاشوراء واليوم الحادِي عشر ؛ وبذلك قد قال : بعض الشافِعيّة ، وبعض المالكية.
- صيام يوم عاشوراء فقط ؛ وبذلك قد قال : بعض الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابِلَة ، وما قد اختارهُ أيضًا شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله.
- صيام يوم قبل أو بعد عاشوراء بُصحبة صيام يوم عاشوراء نفسُه ، ويُفضَّل صيام اليوم التاسِعْ وليس اليوم الحادِي عشر ؛ وذلك ما قد ذهب إليه بعض الحنفيّة ، وابن القيِّم رحمهُ الله ؛ وقد رجعوا في ذلك بِناءًا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم : (لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومَّنَّ التاسِعْ) (أخرجهُ مُسلِمْ في صحيحِه عن عبدالله بن عباسِ رضيَّ اللهُ عنهما) ، ولكن قد وافت رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم المنيّة قبل أن يبلُغْ شهر الله المُحرَّم من العامِ القابِلْ.
- صيام التاسِعْ والعاشِرْ والحادي عشر ؛ وهو أفضل مرتبة من مراتِب صيامْ عاشوراء باتفاقَ العُلماء.
فضل صِيام يوم عاشوراء (The Virtue of Fasting the Day of Ashura):
أخرج كُلًا من : مُسلِمْ ، وأبو داود ، والتِرمِذيّ ، وأحمد ؛ عن أبي قتادة رضيَّ اللهُ عنه : أن النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ، قال : (صيام يوم عاشوراء ، أحتسِبْ على الله أن يُكَّفِّرْ السنة التي قبله).
وقد أخرج مُسلِمْ في صحِيحِه ؛ عن عبدُ الله بن يزيد ، أنَّهُ سمِع ابن عباسِ رضيَّ اللهُ عنهما ، وسُئِلَ عن صيام يوم عاشوراء ، فقال : (ما علمتُ أنَّ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ صام يومًا ، يطلُبُ فضلهُ على الأيام ، إلا هذا اليوم . وشهرًا إلا هذا الشهر ، يعني رمضان).
ويُسَّن الصيام بكثرة في شهرِ اللهِ المُحرَّم ؛ وإن كان قد اصطفى اللهُ تعالى يوم عاشوراء للصيام فيهِ بصورة خاصَّة ؛ إلا أنَّهُ يُسَّنْ التقرُّب إلى اللهِ تعالى بكثرة الصيام في هذا الشهر مثل صيام يوميّ الإثنين والخميس مع صيام الأيام القمرية ، ودليلُ ذلك ما قد أخرجهُ مُسلِمْ في صحيحِه أيضًا ؛ عن أبي هُريرة رضيَّ اللهُ عنه : أنَّ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَّ ، قال : (وأفضل الصيام ، بعد شهر رمضان ، صيامُ شهرِ اللهِ المُحرَّم).
أمَّا عن جزاء صيام يوم عاشوراء هو تكفير ذنوب العام الماضِي ، وقد أجمع بذلك العديد من العُلماء وِفقًا إلى الأحاديث المؤكدة والمُتواترة عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلّم ؛ وقد قال “الإمام النووي” “رحِمَهُ الله” في كِتابِهْ “المجموع” : {يُكَّفِّرْ كُل الذنوب الصغائِرْ ، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر} ، ثُمَّ قال : {صوم يوم عرفة كفَّارة سنتيّن ، ويوم عاشوراء كفَّارة سنة ، وإذا وافق تأمينُه تأمين الملائكة غفر له ما تقدَّم من ذنبِهْ … كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير ، فإن وجد ما يُكفِّرُه من الصغائِرْ كفَّرَّه ، وإنْ لم يُصادف صغيرةً ولا كبيرةً كتبت به حسنات ، ورُفِعَتْ له بهِ درجات ، وإن صادفَ كبيرةً أو كبائِرْ ، ولم بُصادِفْ صغائِرْ ، رجوّنا أن تُخَّفف من الكبائِرْ}.
قال شيخُ الإسلام “ابن تيمية” “رحمهُ الله” في كِتابِه “الفتاوى الكُبرى” : {وتكفير الطهارة ، والصلاة ، وصِيام رمضان ، وعرفة ، وعاشوراء ؛ للصغائِرِ فقطْ}.
الأمر في صِيام يوم عاشوراء (The command to fast on the day of Ashura):
أخرج كُلًا من : البُخاريّ ، ومُسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والبيهقِيّ ؛ عن عبدالله بن عباسٍ رضيَّ اللهُ عنهما ، قال : (قدِمَ رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ المدينة ؛ فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ ، قالوا : هذا يومٌ صالح ، نجَّى اللهُ فيهِ موسى وبني إسرائيل من عدوِّهم ، فصامه ، فقال : أنا أحقَّ بموسى منكم فصامَه وأمرَ بِصيامِهْ).
التخيير في صِيام يوم عاشوراء (Choice of fasting the day of Ashura):
كان صيام يوم عاشوراء فريضةً على المُسلمين وليس سُنة قبل أن يُشَّرعْ اللهُ لنا في الدين صيام شهر القرآن شهر رمضان ؛ ثُمَّ أتى صيام رمضان فنسخ صيام يوم عاشوراء ؛ وذلك من كونِه صيام فريضة إلى جعلِه صوم سُنَّة مؤكدة عن رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم ؛ وإن دلَّ ذلك على شئ فلا يُدَّلْ إلا عن عِظَمْ صيام هذا اليوم وما يترتب عليهِ من الأجرِ العظيم فقد كان فريضة المُسلمين الأولى في عِبادة الصوم.
ودليلُ ذلك ما أخرجهُ كُلًا من : البُخاري ، ومُسلِمْ ، وأبو داود ، والتِرمِذيّ ، وأحمد ؛ عن أم المؤمنين عائشة رضيَّ اللهُ عنها ، قالت : (كان يوم عاشوراء تصومُهُ قُريش قي الجاهلية ، وكان رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يصومُه في الجاهلية ، قلمَّا قدِمَ المدينة صامَهْ ، وأمر بِصيامِهْ ، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامَهْ ، ومن شاء تركَهْ).
وقد أخرجَ مُسلِمْ في صحيحِه ؛ عن مُعاوية بن أبي سُفيان رضيَّ اللهُ عنهما : قال النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم : (هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب الله عليكُمْ صيامه ، ، وأنا صائِمْ ، فمَنْ أحبَّ منكم أن يصوم فليصُمْ ، ومن أحبَّ أن يُفطِرْ فليفطرْ).
وقد أخرج كُلًا مِن : مُسلِمْ ، وأحمد ، وابن خُزيمة ؛ عن جابِرْ بن سُمرة رضيَّ اللهُ عنه ، قال : (كان رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمْ يأمُرْ بِصيام يوم عاشوراء ، ويحثُّنا عليه ، ويتعاهدنا عِندَه ، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ، ولمْ يتعاهدنا عِندَهْ).
مُلاحظات على يوم عاشوراء (Notes on the day of Ashura):
هُناك بعض المُلاحظات التي نعيشها في عالمِنا الحاضر عن يوم عاشوراء ، وهي أمورٌ قد ابتدعها الناس وما أنزل اللهُ بِها من سُلطان ؛ فهُناك من يحتفِي بِـ ذكرى عاشوراء بنوع مُعيَّن من الطعام ، وهناك من يتذكر ذَكرى سيئة في جبين الأمة الإسلاميّة حدثت في مِثل هذا اليوم ألا وهى :
استشهاد الحُسين بن عليّ رضيَّ اللهُ عنهما ؛ وذلك في اقتتالٍ قد حدث بين فِئتيّن من المُسلِمين ، وإن كان الحُسين رضي اللهُ عنه قد استُشهِدَ في هذا اليوم المُبارك ؛ فأولى للمُبتدِعين أن يعملوا بِـ سُنتِه وسيرتِه بين الناس ، ولا يكونوا كمن استهوتهم الشياطين في الأرض ؛ يضربون أنفسهم وذويهِم بالسكاكين والسواطير ادعاءًا وزورًا عن حُزنِهم على استشهاد الحُسين رضي اللهُ عنه ؛ والحُسين رضيَّ اللهُ عنه منهم برّاء ؛ فما ضرَّهُ رضيَّ اللهُ عنه أن يموت شهيدًا وهو مُبشَّرْ بالجنة ؛ فهو أحد سيديّ شباب أهل الجنة مِصداقًا لِما أخرجهُ بن حبَّان في صحيحِه ؛ عن أبي سعيدٍ الخُدري رضيَّ اللهُ عنه ، قال : قال رسول الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّم : (الحسن والحُسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابنيّ الخالة : عيسى ابن مريم ويحيي بن زكريا).
وخِتامًا : أولى للأحياء أن يتعِظوا بمن سبق ومات ؛ فُيجِّدُوا من العمل لما هو آتْ ؛ فما عيشُ الإنسانِ في الدُنيا إلا قليل ؛ فهي أرضٌ فانية وجنةُ اللهِ هي الباقية ، وإنْ كُنَّا سنتعِظْ بإخوانِنا الذين سبقونا بالإيمان فعلينا بهديهِمْ وهديّ الأئمة المهديين من بعدهِم ؛ ممن قد اتفقَّت عليهِمْ كلمةُ الأمة بلا شقاقٍ ولا خِلافْ ، وقد قال الخليفة الراشِدْ “عُمر بن عبد العزيز” “رحِمَهُ الله” : {الأموات محبوسون في قبورهم نادمون على ما فرَّطوا ، والأحياء في الدنيا يقتتلون على ما ندم عليهِ أهل القبور ، فلا هؤلاء إلى هؤلاء يرجعون ، ولا هؤلاء إلى هؤلاءِ يعتبرون}.